فصل: سورة الفلق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الإخلاص:

وتسمى سورة التوحيد نزولها: نزلت بمكة.. بعد الناس.
عدد آياتها: أربع آيات.
عدد كلماتها: إحدى عشرة كلمة.
عدد حروفها: سبعة وأربعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ، ممثلة في عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبيّ، صلوات اللّه وسلامه عليه، وكلمته الأولى إلى قومه.
وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه، ومن تبعهما في جحود هذه الكلمة، والتنكر لها- ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه في الدنيا، وإلى هذا العذاب الأليم في جهنم المرصودة لهما في الآخرة.
وسورة الإخلاص وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية اللّه من كل شرك- هي مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء، وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها.. وها هوذ النبي الكريم، يؤذّن في القوم، بسورة الإخلاص، ومركب الخلاص.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 4):

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ} أمر من اللّه سبحانه وتعالى للنبى بالقول، قولا مطلقا.
وماذا يقول؟.
يقول {هُوَ}! ومن هو هذا الطلق أيضا، الذي لا تحدّه حدود، ولا تقيده قيود؟
{اللَّهُ أَحَدٌ}!.
ولفظ الجلالة {اللّه} من الألوهة، وهو اسم الذات، الجامع لأسماء اللّه تعالى وصفاته كلّها.
و{أحد} صفة للّه سبحانه، بمعنى الأحد معرفا بأل، لأنه في مقابل:
{اللَّهُ الصَّمَدُ} فأحد، وإن كان نكرة لفظا، هو معرفة دلالة ومعنى، لأنه إذ قيل {أحد} لم ينصرف الذهن إلى غيره، فإذا قيل {أحد} كان معناه الأحد، الذي ليس وراءه ثان أو ثالث، أو رابع.
فاستغنى بهذا عن التعريف، لأن التعريف إنما يراد به الدلالة على المعرّف دون أفراد جنسه المشاركة له، فإذا انحصر الجنس كله في فرد واحد، لم يكن ثمة داعية إلى تعريفه، إذ كان أعرف من أن يعرّف.
فاللّه، هو الأحد، الذي لا يشاركه في هذا الوصف موصوف.. فالأحدية هي الصفة التي لا يشارك اللّه سبحانه فيها أحد، كما أن {اللّه} هو اسم الذات الذي لا يسمّى به أحد سواه.
والأحديّة هي الصفة التي تناسب الألوهة، وهى الصفة التي تناسب كل صفة من صفات اللّه سبحانه.
فاللّه- سبحانه- واحد في ذاته، واحد في صفاته.
فالكريم، هو اللّه وحده، والرحيم هو اللّه وحده، والرحمن هو اللّه وحده، والغفور هو اللّه وحده، والشّكور هو اللّه وحده، والعليم هو اللّه وحده.. وهكذا، كل صفة من صفات الكمال، قد تفردّ بها اللّه- سبحانه- وحده، لا ينازعه فيها أحد.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بأحد، دون واحد، تحقيق لمعنى التفرّد، لأن الأحد لا يتعدد، على حين أن الواحد يتعدد، باثنين، وثلاثة، وأربعة، إلى ما لا نهاية من الأعداد.
يقول الإمام الطبرسي في تفسيره مجمع البيان في تفسير القرآن:
قيل إنما قال {أحد} ولم يقل واحد لأن الواحد يدخل في الحساب، ويضمّ إليه آخر.. وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ، ولا ينقسم في ذاته، ولا في معنى صفاته، ويجوز أن يجعل للواحد ثان، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثان.
لأن الأحد يستوعب جنسه، بخلاف الواحد.. ألا ترى أنك لو قلت فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان، وإذا قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان، ولا أكثر.. فهو أبلغ.
ويقول الطبرسي:
قال الإمام الباقر: {اللّه}: معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته، والإحاطة بكيفيته، وتقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما، ودله، إذا فزع.. فمعنى قوله {اللّه أحد} أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه، والإحاطة بكيفيته.. وهو فرد بألوهيته، متعال عن صفات خلقه.
وقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}.
اختلف في معنى الصمد، وكل ما قيل في معناه يرجع إلى تمجيد اللّه سبحانه وتعظيمه، وتفرده بالخلق والأمر.
وفى تعريف طرفى الجملة، إفادة لمعنى الحصر، أي حصر الصمدية في اللّه سبحانه وتعالى وحده.
قيل إن أهل البصرة، كتبوا إلى الإمام الحسين، رضى اللّه عنه يسألون عن معنى {الصمد}، فكتب إليهم بقول:
أما بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وإن اللّه قد فسر سبحانه الصمد، فقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.
أي أنه سبحانه منزه عن أن يكون له ولد، لأن الولد يدلّ على والد، والوالد هو مولود لوالد. وهكذا في سلسلة لا تنتهى. ثم إن الولد يماثل الوالد، وقد يفوقه، ويربى عليه، في قوته، وعلمه.
يقول الإمام الطبرسي في معنى {لم يلد}: أي لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنّفس، ولا تنبعث منه البدوات، كالسّنة والنوم، والخطرة والغم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسآمة، والجوع والشّبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء.. كثيف أو لطيف.
وفى قوله تعالى: {وَلَمْ يُولَدْ} يقول الطبرسي أيضا: أي ولم يتولد هو من شيء، ولم يخرج من شيء، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابة، والنبات من النبات، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار.. ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، والنار من الحجر.. لا، بل هو اللّه {الصمد} الذي لا من شيء، ولا في شيء، ولا على شيء.. مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته.. فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد ولم يولد، {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ}.
ويروى أن الإمام عليا- كرم اللّه وجهه- سئل عن تفسير هذه السورة، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بلا تأويل عدد.. {الصمد} بلا تبعيض بدد.
{لم يلد} فيكون موروثا هالكا {ولم يولد} فيكون إلها مشاركا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} من خلقه.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
كفء الشيء: عديله، ومماثله، قيمة، ووزنا، وقدرا.
فاللّه سبحانه وتعالى، متعال عن الشبيه، والنظير، والكفء والمثيل.. وهذا ما ينفى عن اللّه سبحانه وتعالى أن يلد، وأن يولد، لأن التوالد إنما يكون بين الأشباه والنظائر، وإذ قد انتفى عن أن يكون للّه سبحانه شبيه أو نظير، فقد انتفى عنه أن يكون والدا، وأن يكون مولودا.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

.سورة الفلق:

نزولها: مكية، وفى بعض الأقوال أنها مدنية.
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.
عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
تقرر في سورة الإخلاص ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى، من تفرده بالألوهية، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته، وعلمه، وأنها جميعها مفتقرة إليه في وجودها، وفى بقائها، وأنه سبحانه لا مثيل له، ولا شبيه، ولا كفء ولا ندّ.
هذا ما أمر اللّه سبحانه النبي أن يؤمن به أولا، ثم أن يؤذن به في الناس.
ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين، الفلق والناس تقرران هذه الحقيقة، وتؤكدانها في مجال التطبيق العملي لآثارها، وذلك بدعوة النبيّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء، فذلك هو الإيمان باللّه سبحانه، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه في السراء والضراء.. فهو سبحانه القادر على كل شيء، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شيء.. أما المخلوقون فهم جميعا على سواء في الحاجة إلى اللّه، وفى الافتقار إليه، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
وقد صدّرت سورة الإخلاص، والمعوذتين بعدها، بقوله تعالى: {قل} وهذا الأمر بالقول داخل في مقول القول الذي يقوله النبي، ويقوله كل من يتأسّون به، فمطلوب من النبي، ومن المؤمنين أن يقولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
فهذا الأمر بالقول، هو قرآن متعبد به، وهو يعنى أن القرآن كلمات اللّه، وأنه لا تبديل لكلمات اللّه، وأن هذه الكلمات قد انطبعت في قلب النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه، دون تبديل فيها.. فإذا قيل له- صلوات اللّه وسلامه عليه: {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي}.
قال: {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي}.
وإذا قيل له {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} قال: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} وإذا قيل له: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}؟
قال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهكذا.
وقد عرضنا هذا الموضوع في مبحث خاص، عند تفسير سورة الجن.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)}.
التفسير:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
الفلق: جميع الخلق، لأن كل مخلوق يتولد من غيره، وينفلق عنه، كما تنفلق الحبّة عن الشجرة، والكمّ عن الزّهرة، والزّهرة عن الثمرة، والرّحم عن الجنين.. وهكذا مما نعلم من المخلوقات.. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} وقوله تعالى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} لأن الإصباح يخرج من أحشاء الظلام، كما يخرج الجنين من رحم الأمّ.
والاستعاذة: التعوذ، واللّجأ إلى من يستعاذ به طلبا للحماية، ودفعا للسوء، والمكروه.
والغاسق: اللّيل وظلامه المائج فيه.. والغسق ظلمة الليل.
وأصل الغسق، السّيلان، والتدفق، يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها وتدفق، ومنه الغسّاق وهو صديد أهل النار.
والوقوب، والوقب: الدخول، ومنه النّقرة، لأنه يدخل فيها غيرها من الأشياء، والغاسق إذا وقب، أي الليل إذا هجم، ودخل على النهار فأجلاه عن مكانه.
والنفاثات: من النّفث، وهو النّفخ بالفم في الشيء.. وهو جمع نفّاثة مبالغة في النّفث، أي كثير النّفث، مثل علّامة، وفهّامة.. ويجوز أن يكون جمع مؤنث.
والعقد: جمع عقدة، وهى ما يعقد بها على الشيء، لربطه، وإحكامه، ومنه اليمين المنعقدة، وهى التي تقع عن نية وقصد، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين، وعقدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين.
وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
الخطاب للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم، ولكل متابع له، مستجيب لدعوته.
أي اجعل- أيها النبيّ- عيادك، ولجأك متعلّقا بربّ المخلوقات، مقصورا عليه وحده.
والعياذ، إنما يكون من الشرور، والمكاره، التي يلقاها الإنسان على طريق حياته، وهى تتوارد على الإنسان من المخلوقات، سواء أكانت من عالم الأحياء أو غير الأحياء، وسواء أكانت منظورة، معلومة، أو خفية مجهولة.. ولهذا جاء قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ}.
فهذا هو المستعاذ باللّه من شرّه، وهو المخلوقات على إطلاقها.
والمخلوقات كلها للّه سبحانه، وهى من صنعة يده، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها، وردّ بأسها، سواء أكانت من قوى الطبيعة، أو من الحيوان أو الإنسان.
وليست المخلوقات شرّا. وإنما هي خير في ذاتها، وفى نظام الوجود العام، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه، ولو أخلى مكانه لاختلّ نظام الوجود واضطربت مسيرته.
ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات، فإنه ليس كل المخلوقات شرّا، بل إن معظمها هو خير، يعيش فيه، وبنعم به، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا، ليس بالشرّ الخالص، وأنه لو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر.. فالمخلوقات خيرها كثير، وشرها بالإضافة إلى الإنسان في ذاته، قليل.
فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير، والمراد بالاستعاذة من هذا الشر، هو أن يلقى الإنسان المخلوقات في خيرها الخالص، دون شرها، الذي يستعيذ باللّه منه.
وقد يكون للإنسان، أو الحيوان حيلة في دفع بعض الشرّ، فليحتل حيلته، وليبذل وسعه، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو اللّه سبحانه، كما أن معاذه باللّه، لا يحمله على تعطيل ملكانه وقواه، فنلك وسائل أودعها الخالق جلّ وعلا فيه، وهى داخلة في الاستعاذة باللّه، واللّجأ إليه.. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور، ومكاره، هي أسلحة من عند اللّه سلّحه بها، فلا يعظلها، وليذكر فضل المنعم بها عليه، فإنها عند المؤمن استعاذة باللّه.
وليس الشرّ المستعاذ باللّه منه، هو شرّ في ذاته، لأن اللّه سبحانه ما خلق شرّا، وإنما هو شرّ إضافىّ، أو نسبىّ، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه، والذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو، ولكنه في النظام العام للوجود، هو خير مطلق، كما قلنا.
وأما الشر المستعاذ به، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصّوان، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة في الحياة! فالإنسان في ذاته يشعر بآلام المرض، والجوع، ويجد لذعة الحرمان والفقر، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء، وخيبة الآمال، وضياع الفرص- إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان، ويألم منه، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته. مضبوطا على تلقيات مشاعره له، وإحساسه به.. وهذا كله غير منكور، ومن حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه، وأن يستعيذ به، وأن يطلب منه اللطف والعافية.
والمستعيذ باللّه اللّاجئ إلى حماه، عن إيمان وثيق، وعن معرفة تامة، بما للّه سبحانه وتعالى، من علم، وحكمة، وقدرة، وسلطان- يجد نفسه دائما في هذا الحمى العزيز الذي لا ينال، وتحت ظل هذا السلطان القوى الذي لا يغلب، وأن هذه الشرور التي استعاذ بربه منها، قد انصرفت عنه جملة، أو خفّت وطأتها، وذلك حين يعيد النظر في هذه الشرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة التي لقى بها ربه، وفوض إليه فهيا أمره- فيرى كثيرا من هذه الشرور أوهاما وتخيلات، كما يرى كثير منها أقرب إلى الخير منها إلى الشر، ثم ما كان منها شرّا خالصا- في تقديره- يصبح في ظل التفويض للّه، والتسليم لحكمه، مستساغ الطعم، خفيف الحمل، لما يرى من حسن المثوبة عند اللّه، على ما أصابه، وصبر عليه، محتسبا عند اللّه أجره.
قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ}.
فى لآية السابقة كانت الاستعاذة باللّه، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها.
وفى قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ} وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة، استعاذة من شرور بعض المخلوقات، البادي شرها.
فالليل حين يهجم على الكائنات، ويحتوى الإنسان، يثير فيه كثيرا من المخاوف، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول، المحجب بهذا الستار الكثيف من الظلام.. من عدوّ متربص، أو حيوان مفترس، أو حشرة سامة، ونحو هذا.
وفى الليل، وفى وحشة الظلام، والسكون، والوحدة- تطرق الإنسان همومه ووساوسه، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم، وتلك الوساوس.. ومن هنا كثرت مناجاة الناس لليل، وشكايتهم له، وبثهم إياه ما توارد عليهم فيه من هموم، وما طرقهم من غائبات الذكريات الموجعة.
يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ** علىّ بأنواع الهموم ليبتلى

ويقول النابغة الذبياني:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب ** وليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض ** وليس الذي يرعى النجوم بآيب

فالليل، هو الليل، بوحشته، وتوارد الهموم على صدور الناس فيه، ولن يتغير هذا الوجه من الليل، ولن يتحول إلى نهار بما أطلع الإنسان فيه من شموس وأقمار، من مولدات الكهرباء.. إن لظلامه سلطانا، يتسلل من هذه الثياب المصطنعة من النور، إلى داخل الإنسان، فيجتم على صدره، وينسكب في مشاعره.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ}.
النفث في العقد: هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة، فتنحل بذلك عقد الإخاء، والمودة بينهم.
وأصل النفث في الشيء النفخ فيه.. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي ألقت بها من فمها في جسد الضحية التي وقعت لها.
وهذه استعاذة باللّه من شر جزئى، من شرور المخلوقات، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والفلاقل، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس، فتنحلّ بذلك روابط الإخاء بينهم، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين.. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر، وما يقوم بينهم من صراع، هو من حصاد هؤلاء النفاثين في العقد، من الرجال والنفاثات فيها من النساء، ابتغاء الفتنة، وتمزيق الوحدة، وتشتيت الشمل.
وإذ كانت الكلمة هنا هي الأداة العاملة في هذا المجال، في إيغار الصدور، وإثارة النفوس، وبلبلة المشاعر، وتعكير صفو العواطف، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة، والشائعة المضللة- فقد نصح اللّه سبحانه وتعالى لنا، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها في العقد الموثّقة بيننا وبين أهلنا، وأصدقائنا، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه.
والنصيحة هنا ذات شقين: أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة، المتنقلين بين الناس بالفتنة، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى، ونعوذ باللّه من شرهم، ونستعين به سبحانه على ردّ كيدهم، ودفع أذاهم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} [6: الحجرات].. ومن جهة أخرى، نحذر من أنفسنا أن توردنا هذا المورد، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ باللّه منه.
وفى الاستعاذة باللّه من النفاثات، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين، إذ كانت النساء في هذا المجال أكثر من الرجال عددا، وأثرا، وإذ كان غالبا وراء كل رجل يثير فتنة، امرأة تغريه بها، وتدفع به إليها، وحسبنا أن نذكر هنا امرأة أبى لهب حمالة الحطب، والعهد بها قريب.
وقيل النفاثات: النفوس الخبيثة، والأرواح الفاسدة. سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء.
هذا، وفى هذا التعبير عن إفساد ما بين الناس من روابط، بكلمة {النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
والذي يتأمل هذا اللفظ المعجز يجد:
أولا: أن كلمة النّفث تشير إلى هذا الشبه بين فم هذا الذي يسعى بين الناس بالكلمة الآثمة الفاجرة، وبين الحية التي تنفث سمومها فتصيب بها من الناس مقتلا.
وثانيا: أن هذا النفث المنطلق من فم هذا الإنسان، يصدر عن صدر ملئ بالعداوة والبغضاء للناس جميعا.. أشبه بتلك العداوة المتوارثة بين الحية والناس.
وثالثا: أن كلمة {العقد} وهى الروابط القائمة بين الناس، هي حياة لهم أشبه بتلك الحياة السارية في أبدانهم، وأن حلها يفسد هذه الحياة، كما يفسد حياتهم نفث الأفاعى فيهم.
ورابعا: ان النفث في العقد المادية، من حبال ونحوها، من شأنه أن يلين من صلابتها، وأن يعين على حلها، وكذلك الشأن في العقد المعنوية، من روابط الأخوة والمودة بين الناس، فإن النفث فيها بالنميمة موهن لها، وممهد لحلّها.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ} والحسد، في الأعمّ الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة، الموقد لكل فتنة، المغرى بالكذب والافتراء على الناس، لحلّ عقد الوئام والوفاق بينهم، ولنزع هذه البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابّين، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا.
فالحسد- وهو ما يجده الحاسد في قلبه ضيق وحسرة، حين يرى في يد أحد خيرا ليس في يده، ثم لا يهدأ له بال، ولا تستريح له نفس، حتى يغرب وجه هذا الخير- هو داء يغتال كل معانى الإنسانية في الإنسان، فيصبح عداوة متحركة في الناس، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة، حتى يميت أو يموت.
كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرى أهل الكتاب- وخاصة اليهود- بهذا الموقف الضال الآثم، من رسالة رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول اللّه، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [71: آل عمران] ويقول سبحانه وتعالى عنهم: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [146: البقرة] ويقول جل شأنه فيهم أيضا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [109: البقرة].
وفى نار الحسد التي تأججت في صدور اليهود، ذابت كلّ معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي، فكفروا به، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم.
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرق مشركى قريش في الضلال، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآئم الذي وقفوه من النبي، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشدّ الناس حسدا له، وتصديا لدعوته، وتشنيعا عليه، وكان من مقولات المشركين ما ذكره اللّه عنهم من قولهم: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا}؟ (25: القمر).. {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31:
الزخرف] {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [24: القمر] وقوله تعالى: {إِذا حَسَدَ} هو قيد للاستعاذة باللّه من الشر الذي ينقدح من صدر الحاسد، فتشتعل ناره، وتعلق بمن حسده.
أما الحسد الساكن، الذي لم ينضبح بعد، ولم يتحرك من صدر صاحبه، ولم يبلغ من القوة بحيث يأخذ صورة عملية، أبعد من دائرة الخواطر والمشاعر- أما هذا الحسد، فهو طبيعة غالبة في الناس، قلّ أن يسلم منه قلب، أو تخلو منه نفس.. فما أكثر ما يمد الإنسان بصره إلى ما عند الناس، مما ليس في يده، من مال، أو علم، أو صحة، أو شباب، أو جمال، أو بنين، أو نحو هذا، مما ترغب فيه النفوس، وتتداعى عليه الآمال، وما أكثر ما تتولد مشاعر الحسد من المحروم إلى حيث مواطن هذه المحبّبات إلى النفوس، ثم يجد من دينه، أو عقله، أو مروءته ما يردّه عن موقف الحسد، ثم لا تلبث هذه المشاعر أن تزول وتختفى.. فهذا الحسد الذي لا يجد من صاحبه قلبا مفتوحا له، أو نفسا راضية عنه، هو حسد قد تولى صاحبه دفعه عن الناس، وأطفأ ناره قبل أن تمتد إلى أحد، ومن هنا لم يكن وراءه شر يستعاذ به منه.
هذا، وقد تكرر لفظ {شر} أربع مرات، مضافا في كل مرة إلى جهة خاصة غير الجهات الثلاث، وذلك لأن الشر الناجم من كل جهة منها مختلف عن غيرها.
النبي.. وحديث السحر:
هذا ما يفهم من منطوق آيات اللّه في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}.
وهو فهم يتفق مع سياق السورة، ومع سورة الإخلاص التي سبقتها، وسورة الناس التي جاءت بعدها، والتي كان من ثلاثتها خاتمة كتاب اللّه على ترتيبه في المصحف، الذي رتبت سورة بتوقيف من اللّه تعالى، على ما وقع في يقيننا.
ولكن بعض المفسرين قد ذهب في فهم هاتين الآيتين فهما آخر، إذ زعم أن سورتى الفلق، والناس نزلتا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسترقى بهما من السحر الذي أصابه، والذي كان قد صنعه به رجل يهودى، يدعى لبيد بن الأعصم.. وقد استند هؤلاء المفسرون في هذا على ما جاء في صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، من حديث هذا السحر الذي يقال إنه أصاب رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه.
روى البخاري، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه.، عن عائشة- رضى اللّه عنها- قالت: «سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، رجل من بنى زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله.. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، وهو عندى، دعا اللّه، ودعاه، ثم قال: يا عائشة.. أشعرت أن اللّه أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب! قال من طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، من بنى زريق! قال في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة، وجفّ طلع تخلة ذكر! قال: فأين هو؟ قال في بئر ذروان!.. فأتاها رسول اللّه صلى اللّه عليه في ناس من أصحابه، فنظر إليها، وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: واللّه لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس، نخلها الشياطين قلت يا رسول اللّه أفأخرجته؟ قال: لا.. أما أنا فقد عافانى اللّه وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرا.. فأمر بها- أي البئر- فدفنت».
أي ردمت هذا حديث يرويه البخاري عن السيدة عائشة.
ويروى البخاري، أيضا عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عن عائشة رضى اللّه عنها، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن- وهذا أشدّ ما يكون من السحر، إذا كان كذا- فقال يا عائشة: أعلمت أن اللّه أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى فقال الذي عند رأسى للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، رجل من بنى زريق، حليف ليهود، كان منافقا قال: وفيم؟ قال في مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: في جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذى أروان.. قالت: فأنى النبي- صلى اللّه عليه وسلم- البئر حتى استخرجه، فقال هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن نحلها رءوس الشياطين.
وفى حديث ثالث يرويه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى اللّه، عنها.. قالت: «سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إنه ليخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندى، دعا اللّه ودعاه، ثم قال: أشعرت يا عائشة أن اللّه قد أفنانى فيما أستفتيه فيه؟ قلت: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: جاءنى رجلان فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب؟ قال: ومن طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بنى زريق! قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف لطلعة ذكر. قال فأين هو؟ قال: في بئر ذى أروان قالت: فذهب النبي صلى اللّه عليه وسلم في ناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة، فقال: واللّه لكأن ماءها نقّاعة الحنّاء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين.. قلت: يا رسول اللّه، أفأخرجته؟ قال: لا أمّا أنا فقد عافانى اللّه، وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرّا وأمر بها فدفنت».
هذا ما رواه البخاري من حديث السّحر، ومثله ما رواه مسلم- والروايات الثلاث للحديث متقاربة اللفظ والمعنى.. وهى تشير إلى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد وقع تحت تأثير السّحر من رجل يهودىّ، وأن هذا التأثير قد بلغ به حدّا يخيّل إليه فيه أنه يفعل الشيء وما فعله، وأنه يأتى النساء ولا يأتيهن.
وفى مسند الإمام أحمد عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتى النساء ولا يأتى، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه. الحديث.
وفى تفسير الثعلبي عن ابن عباس وعائشة رضى اللّه عنهما، أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فدبّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعدّة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولّى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم، ثم دسّها في بئر لبنى زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر، يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوى، ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم أتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذى عند رجليه: ما بال الرجل؟ قال: طبّ، قال: وما طبّ، قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي! قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة.. قال: وأين هو؟ قال: في جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان.. فانتبه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مذعورا، وقال يا عائشة: أما شعرت أن اللّه أخبرنى بدائى؟ ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليّا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحنّاء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجفّ، فإذا فيه مشاطة رأسه، وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنتا عشرة عقدة، مغروزة بالإبر، فأنزل اللّه تعالى السورتين (أي المعوذتين) فجعل كلما قرأ آية انحلّت عقدة، ووجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خفّة حين انحلّت العقدة الأخيرة، فقام كأنما أنشط من عقال، ونام ليس به بأس.
والذي ينظر في هذه الأحاديث، وتلك الأخبار يتردّد كثيرا في قبولها، أو الوقوف عندها، إذ كانت تضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الموضع الذي يجور على كماله، وينتقص من عصمته.
وقد كان ذلك مثار بحث وخلاف بين العلماء، فردّ كثير منهم هذه الأحاديث وأبى أن يقبلها، جاعلا عصمة النبيّ فوق كل اعتبار، رافعا مقام النبوّة فوق كلّ مقام.. على حين نجد كثيرا من العلماء، قد انبرى للدفاع عن كتب السنة الصحاح، وما ورد فيها من أحاديث، محاولا سدّ باب الطعن فيها، بتخريج مثل هذه الأحاديث على وجه يمكن قبولها عليه، ولو ركب في هذا مركب التعسّف في التأويل والتخريج.. والانتصار للسنّة، ولكتب الصحاح الحاملة لها، أمر يحرص عليه كلّ مسلم، ويلتقى عنده المسلمون جميعا بلا خلاف.. ولكن حين يكون الموقف كهذا الذي نحن بين يديه، تختلف وجهات النظر، ويكون في المسلمين من يؤثر الجمع بين قبول الحديث وبين الجهة التي يتعلق بها هذا الحديث، محاولا تعليل ذلك وتبريره، على حين يكون في المسلمين من يؤثر مقام النبوّة وتنزيهها عن عوارض النقص، على كل خبر يساق، أو حديث يروى.
وممن ردّ حديث السّحر، والأخبار المتصلة، به من المفسّرين، الإمام الطبرسي، فنراه يقول تعقيبا على هذا الحديث المروىّ عن السيدة عائشة- رضى اللّه عنها-: وهذا لا يجوز، لأن من وصف بأنه مسحور، فكأنه قد خبل عقله، وقد أبى اللّه سبحانه وتعالى ذلك في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [47- 48: الإسراء] ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن اليهودىّ أو بناته، قد اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع اللّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان ذلك دلالة على صدقه، ثم كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه- أي النبيّ- وقتلوا كثيرا من المؤمنين؟.
وهذا الذي يتلمّسه الإمام الطبرسي لقبول الخبر بقوله: ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن اليهودىّ أو بناته اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع اللّه نبيّه على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان بذلك دلالة على صدقه.
نقول هذا القول لا تقوم منه حجة على صحة الحديث وقبوله، وذلك:
أولا: أن الخبر المروي يقول: إن لبيد بن الأعصم هو الذي سحر النبي صل اللّه عليه وسلم، ولم يجر لبناته ذكر في الحديث على تعدد الروايات التي روى بها.
والخبر وحدة واحدة، فإما أن يقبل كله، أو يردّ كله.
وثانيا: إذا كان ما فعله لبيد هذا، هو من قبيل التمويه.. فما الحكمة في أن يطلع اللّه نبيه عليه؟ ولم يحرص النبي على استخراجه من البئر إذا لم يكن له أثر؟
وأي دلالة على صدق النبي في استخراج شيء لا أثر له في واقع الحياة؟
ويقول الإمام محمد عبده، تعقيبا على حديث السحر:
وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة، ولا ما يجب لها:
إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة- يقصدون نفس النبي- قد صحّ، فيلزم الاعتقاد به.. وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من ضروب السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر!.
ويعلق الإمام محمد عبده على هذه المقولة بقوله:
فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلد- بدعة؟ نعوذ باللّه! يحتج بالقرآن على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى اللّه عليه وسلم، وعدّه من افتراء المشركين عليه ويؤول القرآن في هذا، ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه- عليه السلام- وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد بن الأعصم.. فإنه-أي السحر الذي سحره بن الأعصم- قد خالط عقله (أي عقل النبي) وإدراكه في زعمهم.
ثم يقول الإمام محمد عبده:
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم صلى اللّه عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه.
وقد جاء- أي القرآن- بنفي السحر عنه، عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له، إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا.. فإذن ليس هو بمسحور قطعا.
وأما الحديث- على فرض صحته- فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد.. وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله، عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون.
ثم يقول الإمام: على أن الحديث الذي يصل إلينا عن طريق الآحاد، إنما يحصّل الظنّ عند من صحّ عنده.. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة.
ثم يقول الإمام:
وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكّمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل.. فإنه إذا خولط النبي في عقله- كما زعموا- جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه.. والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
والإمامان الجليلان- الطبرسي، ومحمد عبده- يقفان هذا الموقف من حديث السحر، وبين يديهما هذه المقولات الكثيرة التي تنتصر لهذا الحديث وتدفع يد المعارضين له، بل وترميهم بالكفر، والإلحاد.
يقول القاضي عياض في كتابه: الشفا، بتعريف حقوق المصطفى في التعليق على حديث السحر: اعلم وفقنا اللّه وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتندّرت به، لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع، وقد نزه اللّه الشرع والنبىّ، عما يدخل في أمره لبسا. وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه- أي على النبي- كأنواع الأمراض، مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد من أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما طروّه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل له من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلى عنه كما كان!! ثم يقول القاضي عياض: فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات، أنه إنما تسلط على ظاهره، وجوارحه، لا على قلبه، واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثّر في بصره، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه.
ويكون معنى قوله: يخيل إليه أنه أنى أهله ولا يأتيهن، أي يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعترى من أخذ وامترض.
وينقل الآلوسى في تفسيره روح المعاني عن الإمام المازري قوله تعليقا على هذا الحديث:
قد أنكر هذا الحديث المبتدعة، من حيث أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع.
وأجيب، بأن الحديث صحيح، وهو غير مراغم للنص، ولا يلزم عليه حطّ منصب النبوة والتشكيك فيها، لأن الكفار أرادوا بقولهم: مسحور أنه مجنون، وحاشاه.. ولو سلّم إرادة ظاهره، فهو من قبيل هذه القصة، أو مرادهم أن السحر أثّر فيه، وأن ما يأتيه من الوحى، من تخيلات السحر، وهو كذب أيضا، لأن اللّه تعالى، عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها، وهى مما يعرض للبشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له.. وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ.. وقد يخيل لإنسان مثل هذا في المنام، فلا يبعد تخيله في اليقظة.
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت، فإن التسلط على البدن والجوارح، من شأنه أن يجوز على التفكير، وأن يفسد الرؤية الصحيحة للأمور، كما حدث ذلك فيما دخل على النبي، وعلى تصوراته، كما يقول الحديث!! وأما ابن قيم الجوزية، فيعلق على حديث السحر بقوله: هذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى منهم بالقبول.
لا يختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغير هم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف فيه بعضهم مصنفا منفردا، حمل فيه على هشام- ابن عروة بن الزبير- راوى الحديث عن السيدة عائشة- وكان غاية من أحسن القول فيه (أي في هشام)، أن قال: غلط، واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يجوز أن يسحر، فإنه- أي لو سحر- يكون تصديقا لقول الكفار: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} قالوا- أي الذين يردون هذا الحديث-: وهذا كما قال فرعون: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً} وكما قال قوم صالح له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [153: الشعراء] وكما قال قوم شعيب له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [185: الشعراء] قالوا أي الذين يردّون هذا الحديث: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافى حماية اللّه لهم، وعصمتهم من الشياطين.
ثم يقول ابن القيم:
وهذا الذي قاله هؤلاء، مردود عند أهل العلم.. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردّ حديثه.
فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة.. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة.
ويقول ابن القيم:
والسحر الذي أصابه صلوات اللّه وسلامه عليه كان مرضا عارضا، شفاه اللّه منه. ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمى عليه صلى اللّه عليه وسلم في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، وجحش شقّه، وهذا من البلاء، الذي يزيده اللّه به رفعة في درجاته، ونيل كرامته.. وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب، والشتم، والحبس.. فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه، وابتلى بالذي ألقى عليه السلام السّلا وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم- أي الأنبياء- ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند اللّه ثم يقول:
وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافى حماية اللّه لهم.. فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم، ويحفظهم ويتولاهم، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ماجرى على الرسل والأنبياء- صبروا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبوا ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم اللّه بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله، بإيذائهم من أقوامهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه.
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت أيضا، فإن ما يبتلى اللّه سبحانه أنبياءه به من صنوف الابتلاء من أقوامهم، إنما هو في عناد هؤلاء الأقوام، وفى ضلالهم وتأبيهم على قبول الخير، وهذا ما لا يمسّ الأنبياء شيء منه.. وأما ما عرض للرسول من إغماء ونحوه، فقد كان أمرا عارضا لا يتجاوز لحظة من عمر يوم أو ليلة.
أما أن يمتد هذا المعارض ستة أشهر أو سنة، فهذا ما يقطع النبيّ عن رسالته، ويعزله من مقام النبوة.
ويقول ابن حزم في كتابه المحلّى تعقيبا على حديث السحر:
فهذا خبر صحيح.. وقد عرّف اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم من سحره، فلم يقتله!! ومن عجب أن عالما فقيها مجتهدا، واسع الأفق كابن القيم، وأن عالما كبيرا عرف بنفاذ البصيرة، واحترام العقل كابن حزم من عجب أن يكون هذا موقف هذين العالمين الجليلين من حديث السحر، يغلب عليهما فيه ما تواردت عليه مقولات العلماء، من قبوله، والاحتجاج إليه.. ولا أدلّ على ذلك من أن ابن القيم يتحدث في موقف آخر عن السحر، فيقول فيما ينقله عنه ابن حجر في شرح هذا الحديث من البخاري يقول: قال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة أي استخراج السحر، وإبطال عمله- مقاومة السحر- الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية، من الذّكر والدعاء، لا يخل به- كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له.. قال (أي ابن القيم):
وسلطان تأثير السحر، هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثّر، في النساء، والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة، إنما تنشط على أرواح من تلقاه مستعدة لما يناسبها هذا ما يقرره ابن القيم هنا من تمكن الأرواح الخبيثة، التي يقع من آثارها ما يسعى السحر، حسب رأيه.. وهو يرى أن هذه الأرواح الخبيثة لا سلطان لها إلا على الأرواح النازلة، الضعيفة، كأرواح الصبيان والجهال.. فكيف يقبل- مع هذا- قول، بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد سحر؟ وكيف يكون هذا قولا لابن القيم نفسه؟ ينزل هذا بالنبيّ وبمقامه العظيم إلى مستوى الصبيان والجهال؟.
ويردّ ابن حجر على ما نقله- ملخصا- من قول ابن القيم، فيقول:
و يعكّر عليه- أي يؤخذ على قوله هذا- حديث الباب (أي الباب الذي ورد فيه حديث السحر). وجواز السحر على النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده (أي ذكر اللّه) ثم يقول ابن حجر: ولكن يمكن الانفصال عن ذلك- أي الرد على قول ابن القيم- بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى اللّه عليه وسلم لبيان تجويز ذلك.
هذا هو جانب من موقف المنكرين لهذا الحديث، والمدافعين عنه.
وهناك كثير من العلماء، آثروا العافية، وأعفوا أنفسهم من أن يكونوا طرفا في هذه القضية، وهؤلاء هم جماعة من أئمة المفسرين، لم يشاؤا أن يعرضوا لحديث السحر، عند تفسير هم لسورة الفلق بل نظروا في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} نظروا فيه نظرا مجانبا لحديث السحر، فلم يشيروا إلى هذا الحديث من قريب أو بعيد، مع أن هذا هو موضعه الذي يشار إليه فيه.. وهذا يعنى أنهم في موقف توقّف إزاء هذا الحديث، وأنهم يميلون إلى ردّه، أكثر من ميلهم إلى قبوله.. ومن هؤلاء الأئمة المفسرين الذين وقفوا هذا الموقف من حديث السحر: الزمخشري، والطبري، والقرطبي، والنّسفى.
هناك إذن ثلاثة مواقف للعلماء من هذا الحديث، حديث السحر.
موقف من يردّه، ويأبى التسليم به، تنزيها لمقام النبوة، وتأكيدا لعصمة النبي.
وموقف من ينصر هذا الحديث، ويحاول تخريجه على ما يحفظ للنبوة مقامها، ويبقى على النبي عصمته.
وموقف من تجنب الخوض في هذه المعركة، مهاجما أو مدافعا، فلم يعرض لهذا الحديث بإشارة من قريب أو من بعيد.
وإنى إذ أسأل نفسى أىّ موقف من هذه المواقف أنحاز إليه، وآخذ مكانى فيه، ما دمت قد أقحمت نفسى في زمرة العلماء الدارسين لكتاب اللّه- لأجدنى محمولا حملا لا شعوريا على التوقف في هذا الحديث، ثم على تركه وعدم الأخذ به.. وذلك لأمور:
أولهما: أنه ليس حديثا يروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- يريد به أمرا من أوامر الدين، أو نهيا من نواهيه، أو يبغى به نصحا أو إرشادا مما يتصل بالشريعة وأحكامها وآدابها.
فهذا الحديث- إن صح- لا يعدو أن يكون خبرا عن حال من أحوال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الخاصة به، والتي لا يطلع عليها غير خاصة أهله كالسيدة عائشة رضى اللّه عنها.. فهذا الحديث- إن صح- لم يرد إلا عن السيدة عائشة، وهذا يعنى أن هذا العارض الذي عرض للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن له أي أثر خارج بيت الرسول، وخارج صلته بالسيدة عائشة بالذات، والتي قيل إن رسول اللّه حبس عنها ستة أشهر، وفى بعض الروايات سنة.. ولو كان هذا العارض الذي عرض للنبىّ ذا أثر في غير هذه الدائرة الضيقة المحدودة، لا شهر أمره، ولكان حدثا من الأحداث التي يهتز لها كيان المجتمع الإسلامى كله، بل ولطارت أنباؤه خارج الجزيرة العربية، ولكان حديثا جاريا على ألسنة المسلمين وأعداء المسلمين في كل مكان، ولعاش في أجيال الأمة المسلمين زمنا ممتدا، لا ينقطع الحديث عنه.
أما أن يكون حديث آحاد، لا يمسك به إلا آل الزبير عن السيدة عائشة، فهذا ما لا يتسع منطق الحياة لقبوله، إلا أن يكون مما يتصل بالعلاقة الزوجية بين النبي، وبين السيدة عائشة وحدها..، فلا تطلع عليه إلّا هي ومن كان قريبا منها كأبناء أختها صفية، من زوجها الزبير بن العوام.
وثانيها: أن القرآن الكريم يقول للنبى الكريم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وهذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى بحفظ النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- مما يكيد له به أعداؤه، سواء أكان ذلك فيما يتصل بجسده، أو عقله، أو مشاعره.
فاللّه سبحانه قد تولى حراسة النبي حراسة مطلقة، بحيث لا يخلص إليه من الناس أذى، أو يصل إليه منهم سوء.
ولهذا قال النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- حين تلقى هذه الآية- قال لمن كان يتولى حراسته من أصحابه تطوعا: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى اللّه عزّ وجلّ» فهل يعقل بعد هذا، أن يتولى اللّه سبحانه وتعالى حراسة النبي، وأن يخبره بهذا، ثم لا يدفع عنه هذا الكيد الذي يقال إن لبيد بن الأعصم كاده له، وأصابه به في أقتل مقاتله، وهو عقله؟.. وكم امتدت هذه البلوى؟ لقد قيل إنها ستة أشهر، وقيل سنة كاملة!!.
وماذا يبقى من النبي- بل من أي إنسان- إذا أصيب في عقله، واختلط في تفكيره، حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، ويأتى أزواجه وهو لا يأتيهن؟
أما كان من الجائز، بل من الواقع الذي لا يمكن توقيه- أن يحدث النبي- وحاشاه- في شرع اللّه حدثا، فيقول- وهو لا يدرى- ما يحسبه المؤمنون المتلقون عنه- أنه قرآن أو سنة، وهو ليس بقرآن ولا سنة، فيأخذون به ويقيمون دينهم عليه؟ أم ترى أن المسلمين- وقد عرفوا ما بالنبي- عزلوه عن النبوة خلال تلك المدة، فلم يسمعوا ما يقول، ولم يقبلوه منه؟ وكيف واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [7: الحشر] أمسلمون بلا نبىّ، والنبي فيهم؟ أم نبى ولا مسلمون، والمسلمون ألوف، وألوف بين يديه..؟
وثالثها: المعروف المؤكد من سيرة الرسول أنه كان إمام المسلمين في الصلوات الخمس، في الحضر، وفى السفر- فهل كان النبيّ خلال هذا العارض الذي عرض له- وقد امتدّ أشهرا- هل كان يقيم للمسلمين صلاتهم دون أن يختلط عليه أمر الصلاة، في أقوالها، وأفعالها؟ وكيف كان يمكن أن يتحقق من أنه جالس، أو قائم، أو راكع، أو ساجد.. وهو في حال يحيّل إليه فيها أنه يفعل الشيء ولا يفعله؟
لقد كان الرسول صلوات اللّه عليه حريصا على أن يقيم للمسلمين صلاتهم حتى في مرض موته، فكان يتحامل على نفسه، ويمضى إلى المسجد- لا تكاد تحمله قدماه- مستندا من جانبيه على صاحبين من صحابته، حتى ثقل عليه المرض في اليومين الأخيرين من حياته في هذه الدنيا، فأمر أبا بكر بأن يصلّى بالناس.
وإذن فالمقطوع به، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يقطعه عارض أبدا عن الصلاة بأصحابه غير عارض مرض الموت في يوميه الأخيرين.. وإذن فأين، ومتى، كان هذا العارض الذي دخل على النبيّ من السّحر، والذي أدار تفكيره، وقلب موازين الأمور بين يديه؟ وهل كان هذا العارض، ولم يشهد المسلمون أثرا له في أقوال النبيّ وأفعاله في الصلاة؟ ولم إذن يأخذ هذا الوصف؟ ولم إذن يكون له في حياة النبيّ ذكر؟.
فإذا قلنا إن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يسحر، ولم يمسسه سوء، في جسده، أو عقله، قام بين أيدينا أكثر من شاهد يصدّق هذا القول ويؤكده.
فأولا: عصمة النبوّة، تلك العصمة التي لا تتحقق إلا بالسلامة المطلقة في العقل أولا، وفى الجسد ثانيا.
وثانيا: ما وعد اللّه به نبيّه الكريم في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وثالثا: الواقع المحسوس الذي قامت عليه حياة الرسول في أصحابه، وأنه كان يقيم لهم صلاتهم، في الحضر والسفر، في السلم والحرب، لم يتخلف عن هذا يوما واحدا، أو فريضة واحدة، إلا في اليومين الأخيرين من حياته.
هذا ما ينبغى أن يتقرر ويتأكد، وما يجب أن نقيم عليه إيماننا باللّه، وبرسول اللّه.
هذا وقد يلقانا من يقول: كيف تتصدى لخبر ورد في البخاري، وفى مسلم وفى كتب السنة الصحاح؟ وكيف تشك فيه وتتردد في قبوله؟ إن ذلك إن سلّم لك به كان معناه إهدار السنة، ووضع مصادرها الموثّقة موضع الاتهام!! ونقول: كلا: إننا نحترم كتب السنة، وننزل أصحابها من نفوسنا منزلة الإعزاز والإجلال، ونكبر جهادهم المبرور في جمع السنّة المطهرة وحفظها.
ولكن هذه قضية، ورفع مقام هذه الكتب فوق مقام القرآن الكريم، وإنزاله على حكمها، مما يخالف صريح محكم آياته- قضية أخرى.
ولقد صحّ منا العزم، ونحن نكتب هذه السطور الأخيرة من تفسير كتاب اللّه، أن نلتقى بكتب السنّة في دراسة، نرجو أن يوفقنا اللّه فيها، وأن يعيننا عليها، وأن يسدد خطانا على طريق الحق إلى سنة رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه، التي هي وحي من عند اللّه، وبيان شارح لكتاب اللّه.. {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.